من الواضح انه ما لم يكن للثقافة، في حد ذاتها دور ما لا يعد هناك مجال اصلا للحديث عن دور ثقافي سواء للجامعات أو غيرها من المؤسسات، اذ ان ما قد يكون لاي جهة أو مؤسسة من دور ثقافي معين لابد ان يكون مستمدا من دور الثقافة أي أن دور الثقافة هو الإطار العام الذي يتحدد داخله الدور الثقافي المحتمل لاي مؤسسة، بما فيها الجامعة. لذلك لم يكن بد من أن يبدأ الحديث عن الدور الثقافي للجامعات بالحديث عن دور الثقافة.
فهل للثقافة دور؟ وما هي طبيعة وسمات هذا الدور؟
بما تشتمل عليه من عناصر مختلفة، مثل العادات والأعراف والاخلاق والمشاعر والأفكار والقيم والأديان والقانون، مارست وتمارس الثقافة دورا مهما في تشكيل ملامح تاريخ وحاضر البشرية، والارجح أن يستمر بل وينمو ويقوى دور الثقافة في حياة البشر مستقبلا.
فالثقافة تعد محددا من محددات سلوك الأفراد الاعتقادي والقولي والفعلي، ولعله لا أدل على ذلك من أنه غالبا ما تتحدد عادات ولغات وقيم بل ومعتقدات واديان الناس وفقا أو طبقا للثقافة التي ينشأون فيها ويكتسبون منها ثقافاتهم الشخصية، وصحيح أن من الأفراد من ينحرف عن بل وقد يخرج على الثقافة التي نشأ فيها ويناصبها العداء بيد انه انما يفعل ذلك غالبا بسبب تأثير ثقافة اخرى تغلبت عليه أو تبناها ثم هو لا يكاد ابدا يتخلص تماما من ثقافة النشأة والتي تعمل على تشكيل فهمه للثقافة اللاحقة الجديدة وكيفية تطبعه بها وتمثله لها تماما كما تترك لغة النشأة دائما اثارها المميزة على اللغة المكتسبة لاحقا.
ومن خلال دورها المشار اليه في تشكيل سلوك الأفراد تمارس الثقافة دورا مماثلا في تشكيل سلوك الجماعات والمجتمعات وتحديد اوضاعها واحوالها وتوجيه تفاعلاتها مع بعضها البعض.
ولعل من أهم سمات دور الثقافة انه:
ما ترجحه المعرفة البشرية الحالية هو أن السلوك البشري الفردي والجماعي سلوك معقد متعدد العوامل، فهناك العامل الغريزي والعامل المرضي والعامل الوراثي والعامل الاقتصادي وعامل القهر المادي (البدني أو العسكري) والعامل الوراثي و … الخ. وتمارس هذه العوامل ادوارا مختلفة تتراوح عموما بناء على شدة أو قوة التأثير بين الدور الأساسي والدور الثانوي، وحيث ان الثقافة، كما سبقت الإشارة، كل مركب من عناصر عديدة مختلفة لكل منها دورها وأثرها ولا يكاد السلوك البشري يخلو من تأثير بعض تلك العناصر فان الدور الكلي للثقافة والذي يمثل الحصيلة النهائية لتأثيرات مختلف عناصر الثقافة يعد دورا أساسيا في غالب السلوك البشري الفردي والجماعي.
إن مضمون وطبيعة دور الثقافة يختلف باختلاف مضمون وطبيعة الثقافة، فالثقافة المتخلفة التقليدية يكون دورها دورا تخلفيا/ تقليديا أي دورا يكرس التخلف والجمود والوضع الراهن بقدر ما يعوق التطور ويناهض التغيير بينما الثقافة المتطورة أو الناهضة يكون دورها دورا تطوريا وإنهاضياً أي دورا يدفع للتغيير والتطور والتحديث والنهضة بقدر ما يدفع عن التخلف ويناهض الجمود، وبالمثل فان الثقافة الصراعية تمارس دورا صراعيا يكرس التفاعل الصراعي بقدر ما يعوق الحوار ويخل بالسلم بينما ثقافة الحوار والسلم تمارس دورا حواريا سلميا يكرس التحاور والسلم بقدر ما يناهض الصراع ويحد من الاحتراب، واجمالا، فان الثقافة تمارس دورا ايجابيا أو دورا سلبيا، وغالبا دورا خليطا من السلبية والايجابية، بناء على مدى ايجابية أو سلبية مضامينها.
عادة ما تؤثر الثقافة على الانسان من خلال قبوله وتمثله لها، وحيث أن قبول الثقافة لا يكون الا طوعا، اذ يتعذر تأمين قبول الثقافة عن طريق فرضها بالقوة المادية، يصح القول أن تأثير الثقافة تأثير ذاتي معنوي نابع من داخل المرء مما يعني أن دور الثقافة دور ارادي أي يتم من خلال تشكيلها لإرادة المرء وكثيرا ما يكون دورا اختياريا واعيا وليس قهريا.
وبسبب السمات المشار اليها لدور الثقافة، وخاصة كونه دور أساسي ودور ارادي، تمثل أو تتيح الثقافة المدخل الأنسب لإحداث التغيير المنشود في السلوك الفردي والجماعي كما يبقى التغيير الثقافي شرطا لازما لتأمين التحولات المجتمعية الكبيرة مثل الانهاض الحضاري والتنمية الاقتصادية الشاملة، وليس من العسير ملاحظة أن كافة النهضات الحضارية في التاريخ بدأت بنهضات ثقافية وأن التنمية الاقتصادية الواسعة التي شهدتها بعض المناطق لم تتحقق الا بعد حدوث التغيرات الثقافية اللازمة.
إذن للثقافة دور له أهمية بالغة وخصوصية واضحة في حياة الأفراد والمجتمعات البشرية، على أن مما تجدر ملاحظته أن هذا الدور وإن كان سلفا أو أساسا مهما جدا الا انه ظل يزداد أهمية مع تطور البشر وتقدمهم وذلك لما انطوى عليه هذا التطور أو صاحبه من:
ومع تنامي إدراك أهمية الثقافة ودورها تناما الاهتمام بالثقافة. وعبر هذا الاهتمام عن نفسه في مظاهر عدة منها ظهور كم هائل من الجمعيات والمنظمات الثقافية الوطنية والاقليمية والدولية، وانعقاد العديد من المؤتمرات الثقافية الوطنية والدولية، واعلان عقود دولية للثقافة مثل عقد التنمية الثقافية وعقد ثقافة السلم و … الخ.
ومؤخرا تبلورت بصورة اوضح بعض المتغيرات الثقافية الدولية المترابطة مع بعضها والمرتبطة بدور الثقافة مما دفع بالمسألة الثقافية الى صدارة الاهتمام والهم الدوليين، ومن هذه المتغيرات:
تصاعد نمو الاقتصاد الثقافي: مع تواصل ثورة الاتصالات والتقنية ونشوء مجتمع المعرفة التحمت الثقافة أكثر بالاقتصاد وشهد قطاع الانتاج / التصنيع الثقافي نموا هائلا وبمعدلات اسرع بكثير من القطاعات الاخرى التقليدية وانتعش على اثر ذلك سوق عالمي ضخم للثقافة بدأ يدر على المنتجين الثقافيين ارباحا مضاعفة، ومن جانب آخر، وكمظهر اخر لتنامي التحام الثقافة بالاقتصاد، ازداد التوجه لتوظيف الثقافة لتوسيع الاسواق الدولية الخاصة بمنتجات معينة من خلال الترويج للتحولات الثقافية الداعمة لنشر الثقافة التي تؤمن الاقبال على تلك المنتجات والرغبة في استهلاكها نشر الثقافة الأمريكية لترويج السلع الأمريكية).
تسارع معدل العولمة الثقافية: مع التضخم والتوسع المتسارع لثقافة معينة في الثقافة الغربية وخاصة الأمريكية على المستوى الدولي بدأت الثقافات الأخرى تشهد، وإن بدرجات مختلفة، تراجعا واضمحلالا. ونتج عن ذلك تزايد زوال وفناء الثقافات بمعدل متسارع أثار قلق سائر الثقافات.
ولا شك أن من شأن مثل هذه المتغيرات أن تنعكس على دور الثقافة تعزيزا وتوسيعا له، وعلى سبيل المثال، من شأن تصاعد نمو الاقتصاد الثقافي ان يعزز الدور الاقتصادي والمالي للثقافة، ومن شأن تسارع معدل العولمة الثقافية وعواقبها ان يحمل الثقافة دورا مستجدا هو ضرورة الحفاظ على الذات والصمود امام التأثيرات السلبية لرياح العولمة.
نحن ملتزمون بالتقدم في التميز الأكاديمي ، وتشجيع التنمية المستدامة ، والانخراط في الابتكار المستمر ، وخلق مجتمع متنوع من خلال تمكين الطلاب من الاستمرار في تحقيق ومتابعة النجاح مدى الحياة.